الغور يلتهب!
يبرد أطفال بدو أجسادهم بالماء؛ لكن تحت أشعة الشمس العمودية الحارقة، حتى أقوى مكيفات التبريد لن تكون مفيدة.
في فضاء مغبر مفتوح على جحيم الصيف القائظ، يمكن فقط لأبناء محمد عوض الستة، أن يلقوا بالا لأي غرفة صغيرة مبنية من الخيش والبلاستيك ليستظلوا بها. فلا كهرباء تشغل أجهزة تكييف ومراوح، ولا مبردات ماء، ولا خطوط ماء أصلا موجودة.
في منطقة وادي المالح، وهي واحدة من المناطق التي تتجمع فيها عائلات البدو، يظهر الصيف على حقيقته: حارا وقاسيا وأبوابه مفتوحة على الجحيم في أيام القيظ التي تسيطر على منطقة الشرق الأوسط.
‘لا كهرباء. لا ماء متوفر بسهولة. أترى هذه الصهاريج؟ هذه مصادر الماء الوحيدة المتوفرة لدينا’ قال عوض، فيما كانت نسوة ينقلن الماء في عبوات حديدية من الصهريج إلى النزل المغطى بالبلاستيك والذي يجعل أيضا الحياة داخلها مستحيلة.
يتفصد العرق من الأطفال. وتتجمع حول النسوة أيضا بعض شياه عطشى تحاول الوصول إلى نصف برميل تم شقه نصفين لتشرب، يشرب جميعهم من الصهاريج. ويعاني سكان المضارب على امتداد منطقة الغور من شح المياه، فلا الصيف يرحم، ولا الجيش الإسرائيلي يرحم.
خلال الأسابيع الفائتة بدأ الجيش الإسرائيلي بتطبيق أسلوب جديد ضد السكان، فمع مطلع الصيف بدأ بمصادرة صهاريج المياه. عوض ذاته خسر صهريجين، جاء الجيش وصادرهما ونقلهما إلى أحد معسكراته. لكن الحكومة الفلسطينية التي كانت زودت الرعاة من قبل بهذه الصهاريج سارعت إلى تزويد السكان مرة أخرى بصهاريج جديدة.
وسط جبال صفراء وبيئة صحراوية جافة ومحاصرة حركتهم من قبل الجيش الإسرائيلي، يرى السكان أن الصهاريج بلا ماء ليست حلا.
ذاته عوض الذي يملك قطيعا جرارا من الضأن بحاجة يوميا لأربعة أكواب مكعبة من الماء. عليه أن يشتريها من سائقين متخصصين بنقل الماء من مناطق بعيدة حتى المضارب البائسة. وهذه عملية مكلفة وتنطوي على مخاطر كثيرة.
لا يدرك أبناء عوض الستة حجم هذه المخاطر، ولا يمكن قياسها مع شدة حرارة الشمس التي تشوي الأجساد. علي بن عوض أحضر قبل أسابيع قليلة من المستشفى بعد أن أجريت له عملية جراحية لإزالة تشمع أصاب كبده، لا يفكر كثيرا بالحرارة. كان الولد منهمكا في صب الماء على وجه شقيقته الصغيرة.
قال عوض إن أكبر مشكلة تواجه السكان في الصيف الماء. ومع ارتفاع درجات الحرارة تصبح الحاجة إلى صهريج ماء مثل الحاجة للهواء.
على طول الطريق المؤدية إلى المضارب المتناثرة فوق الهضاب، تظهر الصهاريج التي تجرها جرارات زراعية، وفي أي لحظة تتعرض هذه الصهاريج للمصادرة.
وقال رئيس مجلس قروي المضارب عارف دراغمة ‘إنها الطريقة السهلة لدفع السكان للخروج بهدوء. لا حاجة الآن لهدم مساكنهم. الأمر بسيط (…) بمنع المياه عنهم سيهربون’.
وغالبا ما تنتقل بعض العائلات التي تعمل في الزراعة ورعي المواشي صيفا إلى المناطق القريبة من مصادر المياه. تظهر مضارب فارغة من سكانها بعد أن انتقلوا إلى أطراف القرى الزراعية، حيث المياه هناك متوفرة بشكل أكبر.
وقال دراغمة، ‘نحو مائة عائلة ترحل سنويا من مناطق المالح المختلفة في فصل الصيف؛ بسبب عدم وجود الماء والكهرباء’.’إنهم يهربون من أشعة الشمس والجفاف’، لكن في نزل عوض لا مكان للهروب، فالسكن في المنطقة يمتد على مدار السنة.
تظهر أوتاد النزل الخيشي المغطى بالبلاستيك وقد أصبحت جزءا من الأرض الترابية القاسية التي يرشها الأطفال بالماء في عملية تبريد مستحيلة، وعلى بعد عشرات الأمتار تظهر الرفاهية على أصولها.
إنها مستوطنة ‘مسكيوت’: المنازل الخرسانية المكيفة صيفا وشتاء. بركة السباحة التي تظهر أطرافها لأطفال عوض. والهواء الطلق الذي يضرب قمة الجبل المبنية عليه بيوت المستوطنة.
ومن بين المضارب تظهر الأنابيب الضخمة التي تجر المياه للمستوطنات ومعسكرات الجيش. ليس بعيدا عن أطفال عوض توجد مضخات المياه التي تغذي المستوطنة المجاورة.
وتشير إحصاءات مختلفة إلى أن استهلاك المياه للفلسطينيين في الأرض الفلسطينية نحو 70 لترا للفرد في اليوم أو أقل، ويقل كثيرا عن المستوى التي توصي به منظمة الصحة العالمية وهو 100 لتر للفرد يوميا، بينما يبلغ معدل استهلاك الفرد في إسرائيل نحو 300 لتر يوميا أو أكثر.
لكن أكثر ما يمكن أن يستهلكه أبناء عوض في هذا اليوم الذي ترتفع فيه درجات الحرارة فوق معدلها الطبيعي بنحو تسع درجات، ليس أكثر من لترات محدودة من المياه. ‘رش.رش.رش’ قال أحد الأطفال في ساحة نزل عوض لشقيقه الذي كان يسكب الماء على رأسه ‘رش’.
ــــــــ
ج. ض/ا ف